بقلم المهندس/ طارق بدراوى
في عام 1856م أسس الضابطان المجريان ليون أوروزدى وهيرمان باك في القاهرة محل تجارى تم تسميته أوروزدى باك وكانا قد أسسا سلسلة محلات تحمل إسميهما تخطي عددها الثمانين فرعا في عواصم بلاد مختلفة عربية وأوروبية وكانت هذه المحلات هي الخيار الأول للسكان في هذه العواصم وكذلك للعائلات الأرستقراطية الثرية وملاك الأراضي وكانت الشركة توفر أغلب إحتياجات هذه الفئات من الماركات الأوروبية ذات الجودة العالية ولذلك لمع نجم الشركة وأصبحت من أشهر السلاسل التجارية للبيع بالتجزئة في العالم ومابين عام 1905م وعام 1906م تم إنشاء مقر جديد لهذا المتجر مكون من عدد 6 طوابق بشارع عبد العزيز عند تقاطعه مع شارع رشدى باشا صممه المهندس المعمارى راؤول براندن علي الطراز المعروف بإسم الباروك أو الروكوكو وكان ذلك جزءا من عملية تطوير منطقة وسط مدينة القاهرة قام بها الخديوي إسماعيل بهدف تحويل القاهرة إلى تحفة حضارية ومدينة عصرية تضاهي وتنافس أجمل مدن العالم حتى أنها إشتهرت آنذاك بإسم باريس الشرق ولا يزال مبنى هذا الفرع موجودا حتى الآن في نفس المكان وأصبح هذا الفرع منذ إفتتاحه قبلة لسكان القاهرة والعائلات الثرية وكبار الملاك والأعيان أيضا حيث كانوا يجدون إحتياجاتهم من السلع والبضائع كالملابس وفقا لأحدث الموضات العالمية والأحذية والشنط والأدوات المدرسية والمفروشات والأثاث وخلافه وبعد عدة سنوات وتحديدا في عام 1920م إشتراه ثرى مصرى يهودى بعد أن إضطر مالكاه المجريان الجنسية إلي بيعه وذلك نظرا لإضطهاد الإنجليز الذين كانوا يحتلون مصر آنذاك لكل ماهو مجرى أو نمساوى بسبب الحرب العالمية الأولي التي قامت مابين عام 1914م وعام 1918م وكان كل من المجر والنمسا في المعسكر المعادى لبريطانيا وقام المالك الجديد لهذا المتجر بتغيير إسمه إلي عمر أفندى والذى توسع بعد ذلك في تجارته وقام بإفتتاح سلسلة فروع في القاهرة والمحافظات المختلفة ومما يذكر أن هذا المبني كانت تخرج منه أنوار تضيء ليل القاهرة كإعلان عن وجود أوكازيون ليلفت أنظار الناس إلى المحل فيتوافدوا إليه أما عن سبب تسمية المتجر بعمر أفندى والذي أصبح فيما بعد من أشهر العلامات التجارية في الشرق الأوسط، والعالم فيرجح أنه كان نسبة إلي رجل يسمي عمر أرناؤوط وهو من أصول ألبانية كان يعمل في محلات أوروزدي باك حيث كانت مصر تستقبل حينذاك أعدادا كبيرة من الألبان في هذه الحقبة الزمنية وكان يعرف عنهم أمانتهم وصرامتهم وبراعتهم في تنفيذ الأعمال وبالتالي تبوءوا المواقع التنفيذية وعمل الكثير منهم نظَّار عزب كبار ملاك الأراضي الزراعية في مصر وقد سمي عمر أرناوؤط بالأفندي لأنه كان يرتدي ملابس الأفندية آنذاك أي البدلة والطربوش وكان محبوبا ومسوقا وبائعا مبدعا يجذب الزبائن ويتعامل معهم بلباقة ويقنعهم بشراء البضائع المعروضة بمحلات أوروزدى باك وبعد بيع المتجر في عام 1920م كان مالكه الجديد لا يقل دهاءا عن سابقيه إذ غير إسم المتجر إلى عمر أفندي من ناحية ليستغلوا العلاقة الوطيدة التي كونها عمر أفندي مع زبائن المتجر وقيل إنه دخل معهم في شراكة بالإسم التجاري ومن ناحية أخرى تفاديا للبطش الإنجليزي الذي كان يمقت أي شيء له علاقة بالمجر أو النمسا وقد تحول المتجر إلي شركة توسعت بشكل أكبر في جميع أنحاء مصر وإنتشرت فروعها في كل مدينة وبلدة كبيرة في مصر من شمالها إلى جنوبها ومن ثم هيمنت على تجارة البيع بالتجزئة وتميزت منتجاتها بالجودة العالية إذ كانت على أحدث الموضات العالمية وبأسعار معتدلة علي نفس النسق الذى كان عليه متجر أوروزدى باك ومن ثم أصبحت سلسلة محلات عمر أفندى هي الأشهر في الشرق الأوسط وظلت في أوج تألقها وتفوقها إلي أن قامت ثورة 23 يوليو عام 1952م وإستولي جمال عبد الناصر وباقي تنظيم الضباط الأحرار على مقاليد الحكم في مصر وبدأ فكر العسكريين ينضح على الأمور الإقتصادية في الدولة فقام الرئيس جمال عبد الناصر ذو التوجه الإشتراكي بالعديد من عمليات التأميم للمتلكات والمشروعات والشركات الخاصة بداية من عام 1957م والتي كان يملكها المصريون والأجانب علي حد سواء وكان من بينها شركة محلات عمر أفندي وسرعان ما بدأت هذه الأيقونة الإقتصادية المتوهجة في التدهور والخفوت منذ هذا الوقت وفي عام 1967م تحولت سلسلة محلات عمر أفندى إلي شركة مساهمة مصرية تتبع الشركة القابضة للتجارة والتي تحولت فيما بعد إلى الشركة القابضة للتشييد والتعمير وذلك تماشيًا مع التوجه الإشتراكي السائد آنذاك والذي يعتنق فكر مركزية الإقتصاد والعمل على تحقيق الإكتفاء الذاتي من إنتاج كل شيء من الإبرة إلى الصاروخ كما كان يقال في ذلك الوقت ونتيجة لعدم القدرة على تحقيق ذلك ظهرت السوق السوداء للبضائع الأوروبية وكان المسافرون العائدون من الخارج يحملون من الهدايا والبضائع الكثير والكثير فيما عرف بإسم ظاهرة تجار وتجارة الشنطة .
ونتيجة لهذا التوجه تدهورت الأوضاع في سلسلة محلات عمر أفندى والعديد من الشركات الأخرى التي تم تأميمها وغرقت في غياهب الروتين والبيروقراطية وعدم الكفاءة والفساد مما أدى إلي رداء البضائع المعروضة في فروعه وقله الأصناف المنتجة محليا وإهمال البنية التحتية وساد فكر الموظف الرتيب الذي يفتقر لأدنى مهارات البيع والتسويق على العاملين فيها ومن ثم تراجعت مبيعات عمر أفندي وإنخفضت أرباحه ومنذ بداية التسعينيات من القرن العشرين الماضي تبنى نظام الرئيس الأسبق حسني مبارك سياسة الخصخصة التي إستهدفت بيع شركات قطاع الأعمال العام التي تجاوز عددها أكثر من 140 شركة وللأسف الشديد عندما تحدث الخصخصة في جو مشبع بالفساد فحتما ستكون عمليات البيع طبقا لهذا التوجه مهدِرة للمال العام بشكلٍ فج وبدأت أولى محاولات النيل من هذا الكهل الإقتصادي المنهَك الذي يملك عدد 82 فرع وعدد 68 مخزن في أفضل المواقع في مصر وفي أواخر عهد حكومة الدكتور عاطف عبيد في عام 2004م قامت وزارة قطاع الأعمال العام التي كان يتولاها آنذاك الدكتور مختار خطاب بطرح فروع محلات عمر أفندي للمشاركة الكاملة من قِبل القطاع الخاص ونتج عن هذا الطرح أن آل فرع الفيوم لصالح شركة النساجون الشرقيون وفرع الجامعة العمالية لصالح شركة الخزف والصيني وفرع شارع 26 يوليو لصالح المركز المصرى للهندسة والتجارة وفرع ثروت لصالح شركة مصر إيطاليا للملابس الجاهزة جوباي ويذكر أن الدكتور مختار خطاب كان قد صرح في 2عام 2008م أن الخصخصة سياسة عليا وأن أسماء الشركات المقرر بيعها تأتي بخصوصها تعليمات من أعلى .
وكانت الضربة الثانية والقاضية للقضاء على هذا الكهل للتربح من ورائه بأكبر قدر ممكن من الأموال أن باعت حكومة الدكتور أحمد نظيف في عام 2005 م شركة عمر أفندي إلى شركة أنوال السعودية التي يمتلكها رجل الأعمال السعودى جميل القنبيط بقيمة 655 مليون جنيه في حين كانت أصول الشركة متجاوزة مبلغ 5 مليار جنيه ولذلك وصفت هذه الصفقة بأنها صفقة بيع مشبوهة ومريبة للغاية حيث إلتقت رغبات الطرفين على حساب المال العام في مصر إذ يستفيد النظام المصري وبعض المرتزقة من ورائه من العمولات والمكافآت من خلف الستار بشكل غير قانوني وغير مشروع ويحصل القنبيط على الشركة المحملة بعقارات تجاوزت قيمتها 5 مليار جنيه في مقابل دفع مبلغ زهيد بشكل رسمي وهكذا كان هذا هو التفسير لهذا الاتفاق المشبوه وقد قطع القنبيط على نفسه الوعود أثناء إتمام عملية الشراء بالمحافظة على عمال الشركة والعمل من أجل تطويرها وزيادة مبيعاتها وتعظيم أرباحها إلى أضعاف وضعها حينذاك وإعادتها إلى سابق عهدها وبعد إتمام الصفقة لم ينجز أيا من وعوده بإستثناء بعض الرتوش كتغيير العلامة التجارية للشركة وتركيب مصاعد وسلالم كهربائية في بعض الفروع كما قام بالتخلص من نسبة كبيرة من العمال وبدأ مسلسل من الإهمال المتعمد لأشهر وأكبر وأقدم علامة تجارية في الشرق الأوسط والعالم وذلك بهدف تمهيد الطريق وإعطاء الحجة في صورة أن الشركة لم تعد مجزية إقتصاديا ولا تحقق العائد المرجو منها بل تحقق خسائر فادحة وبالتالي فهي علي وشك الإفلاس لذا يجب البدء في بيع عقاراتها ومن ثم تحقيق أرباح بالمليارات هكذا كان يبدو في الأفق التحضير لهذا السيناريو الردئ وقد قام القنبيط برهن عدد 16 فرع من فروع الشركة رهنا حيازيا لعدة بنوك منها البنك الأهلي المتحد وبنك عودة إلي جانب مؤسسة التمويل الدولية مقابل حصوله على قروض وتسهيلات بنكية بنحو 462 مليون جنيه إلا أن الرياح جاءت بما لا تشتهي سفنه إذ قضت محكمة القضاء الإداري في مصر في حكم تاريخي في شهر مايو عام 2011م بإلغاء وبطلان عقد البيع بين الحكومة المصرية وشركة أنوال التي يمثلها ويمتلكها رجل الأعمال جميل القنبيط وبطلان شرط التحكيم الوارد في العقد وإعادة المتعاقدين إلى الحالة التي كانا عليها قبل التعاقد .
وقد ذكرت المحكمة في حيثيات حكمها أن الشركة القابضة نيابة عن الدولة ممثلة فى وزارة الإستثمار وكذا المجموعة الوزارية للسياسات الإقتصادية تصرفت في شركة عمر أفندي ليس بإعتبارها صرحا تجاريا ساهم على مدار تاريخه الطويل من خلال فروعه العديدة المنتشرة فى أرجاء البلاد في تلبية الحاجات الأساسية لقطاعات عريضة من الشعب ولكن بإعتبارها رجس من عمل الشيطان يجب التطهر منه بأى ثمن وهو الأمر الذى يثير الشك والريبة حول حقيقة التصرفات التي قام بها جميع المسئولين عن إتمام تلك الصفقة إذ بلغت تلك التصرفات حدا كبيرا من الجسامة يصل إلى حد شبهة التواطؤ لتسهيل تمرير الصفقة بكل ما شابها من مخالفات وذكرت أيضًا أن القنبيط حول شركة عمر أفندي من شركة رابحة في ظل قطاع الأعمال العام إلى شركة خاسرة ففي عام 2005م أي قبيل عملية الشراء كان الفائض المرحل 54 مليون جنيه بخلاف أرباح سنوية 2.1 مليون جنيه بينما بلغت الخسائر في عام 2009م نحو 613 مليون جنيه ومن ثم عادت شركة عمر أفندي» إلى الحكومة المصرية من جديد ممثلة في الشركة القابضة للتشييد والتعمير ولكن في وضع أكثر سوءا من ذي قبل إذ أصبحت محملة بديون كبيرة وبوضع مزر للعاملين فيها وبفروع مغلقة وأخرى شبه فارغة ومنذ صدور حكم المحكمة في شهر مايو عام 2011م وإلى هذه اللحظة جرت محاولات غير جادة من الحكومة المصرية لانتشال الكهل الإقتصادي من تدهوره ولكن لم يحدث أي تقدم ملحوظ في هذا الإتجاه خاصة في ظل الأوضاع الإقتصادية السيئة التي تمر بها البلاد حتي الوقت الحالي نتيجة الإضطرابات السياسية وحركة السياحة شبه المتوقفة في الست سنوات الأخيرة وجدير بالذكر أنه يعمل في الشركة الآن حوالي 2700 موظف أكثرهم من كبار السن وبسبب تردي أوضاعهم فقد شكلوا فيما بينهم مؤخرًا إئتلافا يسمى إئتلاف منقذي عمر أفندي للضغط على الحكومة وطرح حلول عملية من أجل سرعة التحرك لإعادة تشغيل الشركة بكفاءة وإستغلال كنوزها الدفينة وتحسين أوضاعهم المالية .